بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
{مالك يوم الدين }
إن كانت كل نعم الله تستحق الحمد فإن ملكه ليوم الدين يستحق الحمد الكبير ؛ لأن هذه الملكية الحقيقية لهذا اليوم هي التي حمَتْ حقّ كل ضعيف أُخِذَ وهُضِمَ حقه .. وكل مظلومٍ ظُلِمَ في هذه الدنيا..بأن الحياة
لن تنتهي هنا وأن الدنيا ليست داراً لاستيفاء الحقوق ، وإنما تُستوفى الحقوق في الآخرة ..
فيوم القيامة لا مالكَ ولا ملِكَ إلاّ الله جل جلاله ..قال عز من قائل:{ لِمَنِ المُلكُ اليوم لله الواحدِ القهّار }.. وقال :{وخضعتِ الأصواتُ للرحمنِ فلا تسمعُ إلاّ همساً }..
هو الذي يملكُ هذا اليوم وحده ، يتصرفُ فيه كما يشاء ، الكُل مذعنون لعظمته وخاضعون لعزته ، منتظرون لمُجازاتهِ .. راجون ثوابه .. خائفون من عقابهِ..
قال :[ يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا المَلِك، أين ملوك الأرض ؟ أين الجبّارون ؟ أين المتكبرون ].
حتى الذين ملَّكهم في الدنيا ؛ فقد زال مُلكُهم في الآخرة .. لأن مُلكهُم في الدنيا مُلكٌ صوري لا مُلكٌ حقيقي..
فالملكُ الحقيقي هو لله وحده..{ المُلكُ يومئذٍ الحقُ للرحمن }..
من فَقِهَ اسم الله المالك ، والملك .. و فَهِمَ أن المُلكُ كُله لله والأمرُ كله لله ، وكل مخلوقٍ في هذا الكون طائعٌ له ولأمرِهِ صَحَّحَ نظرتَهُ للخلْق..!
وعَرِفَ أنهم مهما بلغوا ومهما مَلكوا من .. أموال.. ومناصب.. وأرصدة .. وألقاب .. إلاَّ أنهم في حقيقة أمرهم فقراءُ عاجزون مملوكون لربهم ، وأنّ الله أَمْلكُ لما يملكونه من مُلكِهم هم له ، وأمرُ الله أسرعُ
إلى ما يملكونه من أمرْهم هم إليه..
وكُلْ هذا الفِهم يولد العِزة في قلب المؤمن ..
يجعل المؤمن يأنفُ من كل رِقٍِ للخلْق ، ويتحررُ مِنْ كل أسْرٍ للخلق ، ومن كل مُبالغةٍ في الخوف منهم أو الذُل والخضوع لهم..
فالله جل جلاله علّمنا عن نفسه أنه هو { الغني الحميد وحده} من أجل ماذا علّمنا ؟
من أجلِ أن نُسقِط الناس من قلوبنا..
من أجل أن لا يذلَّ أحدٌ لأحد ..
من أجل أن يبقى قلب المؤمن عزيزاً بالله ، قوياً بالله ، لا يطرقُ باب الخلْق فالعبدُ كلما ازدادَ علماً عن ربهِ ومعرفةً بربه .. ازداد نوراً في التعامل مع الناس.. فالعزة لا تأتي إلاّ من عند العزيز وحده فإن من ذلّ
للعزيز عزَّ .. قال تعالى :{ قل لله العزةُ جميعاً }.
وبهذا يتحققُ "توحيد الذل لله" وهو ركنٌ من أركان العبودية ..
وعبادةُ الرحمن غايةُ حُبه مع ذُلِّ عابده هما قطبانِ
لذلك قيلَ :" اقضوا حوائجكم بعزة الأنفس فإن الأمور مقادير "..
وإن وعيتَ وعقِلتَ معنى العزة الحقيقة ومن أين تُستمدْ ؟.. علِمتَ يقيناً أن ما كان لك سيأتيك على ضعفك ، وما لم يكن لك لن يأتيكَ على قوتكَ .. فلماذا الذُل للخلق ؟؟
هذه الآيات الثلاثة هي آيات الحمد .. وآيات الثناء.. وآيات المجد..
الحمد لله رب العالمين ,, يقول الله عزوجل حمدني عبدي..
الرحمن الرحيم ,, يقول الله عزوجل أثنى عليَّ عبدي..
مالك يوم الدين ,, يقول الله عزوجل مجَّدني عبدي..
وترتيب هذه الآيات مرتبط بأركان التعبد القلبية التي لا قبول لأي عبادة إلاَّ بها وهي: المحبة ، والخوف ، والرجاء..
فما من عابدٍ يتعبد الله إلا بناءً على محبته لله ، وخوفه منه ، ورجاؤه فيه..
فالأصل الأول:
وهو المحبة أشارت إليه { الحمد لله رب العالمين } ..
معرفةُ كونِ أنَّ الله رب العالمين الذي يربيهم ويُصلحهم، ويدبر أمورهم ويُنعم عليهم ، والمُنعم يُحبُّ على قدرِ إنعامهِ فهذا يؤصِّلْ محبة الله في القلوب ؛ إذْ أن القلوب جُبلت على حُبِ من يُحسِنَ إليها ،
ومن يُنعمَ عليها ..
الأصل الثاني:
وهو الرجاء أشارت إليه { الرحمن الرحيم } ..
فمن استصحب رحمة الله الواسعة الشاملة الواصلة لخلقهِ ، واستصحبَ أن الله جل جلاله هو رحمنُ الدنيا والآخرة ورحيمُها .. نظرَ إلى ربه بعين الرجاء ، وهذا يؤصل عبودية الرجاء في الله وحسن الظن به..
الأصل الثالث:
وهو الخوف أشارت إليه { مالك يوم الدين }..
فمن علم أنه المالك المتصرف ليوم الحساب ويوم الجزاء هو الله وحده جل جلاله يتصرف فيه كما يشاء دون تدخل أحد من خلقه كائناً من كان خاف ربه ..
لذلك يجب أن يكون العبد في عبادته وذكره لله جامعاً بين هذه الأركان الثلاثة ، ولا يجوز له أن يعبد الله بواحدٍ منها دون باقيها..
ونسأل الله الكريم أن يوفقنا لتحقيق هذه المقامات العظيمة ، وأن يجعلنا ممن عبد الله حباً فيه ورجاءً لثوابه ، وخوفاً من عقابه ، وأن يُعيننا على تكميل ذلك وحسنُ القيام به .. إنه سميع الدعاء ، وهو أهل
الرجاء ، وهو حسبنا ونعم الوكيل..